ومن خلال سلسلة مبادرات عديدة على أكثر من مستوى إقليمي ودولي، واصلت إسرائيل تقديم سلسلة من التظاهرات العسكرية في لبنان وقطاع غزة، متجاوزة النداءات الدولية ومقترحات وقف إطلاق النار، فضلاً عن تهديدات “محور”. “المقاومة” وحالة نظرية “الهاء والدعم”. وترجم ذلك إلى صواريخ تجاوزت حيفا وعكا واقتربت من تل أبيب، على عكس المجازر الإسرائيلية التي نفذتها في الميدانين ومحيطهما. وعليه، سئل هل نتنياهو ينتظر ضوءا أخضر من أي طرف أم أن لديه استراتيجيته الخاصة واستغل «الفراغ الدولي» حتى افتتاح الانتخابات في واشنطن في الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل؟
ولم يتمكن أي من السفراء المشاركين في اللعبة السياسية في لبنان من تقديم صورة واضحة عما يجري من عمليات عسكرية مدمرة على المرحلتين اللبنانية والفلسطينية وما يمكن أن تؤدي إليه في الأيام المقبلة. خاصة على مستوى القوى المشاركة في المواجهة المفتوحة بين من يزعمون من طرفين متناقضين النية والقدرة على تغيير وجه المنطقة. وعبّر السفير عن ذلك من خلال الإشارة إلى عدد من السيناريوهات المختلفة التي تحاكي مستقبله، ثم اختصرها في سيناريوهين أساسيين، خُصص لكل منهما الحد الأقصى من القدرات العسكرية والاستخباراتية والأمنية والاقتصادية والدبلوماسية. وهل عبر عن ذلك منذ فترة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ومن جانب من يدعمه، ومن ناحية أخرى، «محور المقاومة» الذي تقوده طهران وأسلحتها في عدد من الدول؟ في المنطقة العربية، وخاصة في لبنان وغزة، من جهة أخرى.
ومقارنة بميزان القوى وعدم تكافؤه في جميع المجالات، لم ير الدبلوماسي حتى الآن أي شيء يشير إلى قدرة أي من الطرفين على حل هذا الصراع لصالحه. وهذا يؤدي تلقائياً إلى انتظار المزيد من العمل العسكري، رغم التفاوت الكبير بين قدرات الطرفين، بشكل لا يوحي بوجود عناد في مواصلة المواجهة، بوجود من يقف إلى جانبهما قادر على الحسم. المواجهة المواجهة مهما كان الثمن الذي دفعوه، وأصبح الشعبان اللبناني والفلسطيني الذي ما زال فيها وقود المعركة بعد انهيار عدة نظريات، خاصة تلك التي قالت إن هناك توازنا بين «الردع والإرهاب»، كما وهو ما انعكس في النتائج الناتجة عن الاختلافات بين تأثيرها الظاهري على قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا من جهة، والأراضي الـ 48 والمستوطنات والكيبوتسات الإسرائيلية من جهة أخرى.
انطلاقاً من هذه المعايير التي لا تزال محل نقاش في ظل الانقسام الذي يدور حولها، يبدو من المؤكد أن الخيارات العسكرية لا تزال متقدمة بفارق كبير على كل السيناريوهات السياسية والدبلوماسية، بعد فشل كل المحاولات المستمرة للحد منها والتصعيد. الاتفاق على وقف شامل لإطلاق النار وتنفيذ عملية تبادل للأسرى بمختلف فئاتها، بين العسكريين والمدنيين وذوي الجنسية المزدوجة من جهة، والأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية من جهة أخرى فيما يتعلق بغزة وبهدف إنهاء وجود الأسلحة غير الشرعية في جنوب لبنان واستقرار الحدود البرية بين لبنان والأراضي المحتلة بما يسمح بعودة النازحين إلى جانبي الحدود واستعادة الأمن والاستقرار في المنطقة للبنان.
وفي التفاصيل، تابع السفير أن هناك عقبات لبنانية داخلية، مخاطرها تعادل تلك الموجودة على الصعيدين الإقليمي والدولي، مثل خلل هيكلية السلطة في لبنان وغياب رئيس الدولة حتى لبنان. وهي معزولة عن الأطراف الأخرى التي خاضت ما يسمى بـ”حرب الدعم” لغزة. وأعرب عن تمسكه بمبدأ «وحدة الساحات»، رغم أن بعضها انخرط فيما بعد، دون الأخذ بعين الاعتبار ردود الفعل الدولية المحتملة قبل تقييم ردود الفعل الإسرائيلية وما يمكن أن تؤدي إليه برامج الدعم، إلا أن تل أبيب نجحت أكثر. في الحفاظ على المخاطر الوجودية، وتصوير المخاطر التي تواجهها والمبالغة فيها بطريقة أعمت حلفائها عن مدى التهديد الذي كان يشكله الجنوبيون، وما نتج عن ذلك من مجازر في مناطق يُزعم أنها استهدفت من قبل قادة الحزب ومستودعات الأسلحة، كما هو الحال في الأراضي السورية. وعندما دمرت القنصلية، استهدفت الاغتيالات القادة السياسيين والحزبيين وكذلك كبار المستشارين العسكريين.
ويضيف الدبلوماسي أن الأخطر من المآسي التي نتجت عن هذه العمليات، هو أن بعض زعماء العالم ومسؤولين رفيعي المستوى وجدوا مبررا لهم إلى درجة تبني ردود فعل متشابهة ومتوازية، إذ تكرر وجود أكثر من أميركي وبريطاني وفرنسي وآخر ورأى مسؤول ألماني أن العالم سيكون أكثر أمانا بعد… اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في الضاحية الجنوبية لبيروت. فماذا عن سلسلة الاغتيالات التي طالت قيادات عسكرية من الصفين الأول والثاني ورؤساء القوات المسلحة في غزة ولبنان، وما رافقها من سقوط عشرات الآلاف من المدنيين بين شهداء وضحايا وجرحى ومعاقين؟ صاروخ أم وابل من هنا وهناك؟
انطلاقا من هذه الملاحظات، نظر الدبلوماسي بقلق بالغ إلى مستقبل الوضع في لبنان والمنطقة، متخوفا من تأثير الآلة العسكرية الإسرائيلية التي تعمل بكل قوتها التدميرية دون عوائق إنسانية أو عسكرية أو أخلاقية أو دولية، خوفا من قرار دولي مهم يدعو إلى وقف العسكرة العسكرية للقوى التي شهدتها المنطقة بعد داعش والنصرة وغيرهما. عدا عن ذلك فهي هراء ووعود عرقوبية كاذبة، لتفشل كل التحذيرات الإنسانية ضده، حتى لو كان أبطاله ورجاله من أبناء الأرض وأصحاب كل شبر منها، يخوضون المواجهات على أرضهم دون تدخل الجميع. قوى خارجية ودول وهويات أخرى يمكن إدراجها في قائمة المرتزقة في الحروب التقليدية. كل هذه المعايير تندرج في إطار المواجهة العالمية بين التحالفات الكبرى، والأخطر من ذلك كله أن العالم أوكل هذه المهمة لنتنياهو. وهذا يضع حداً لكل الإشارات المتناقضة، بما فيها تلك التي أطلقها قبل أيام الموفد الرئاسي الأميركي عاموس هوشستاين بأن «لا يوجد ضوء أخضر أميركي لأي عملية برية في لبنان، فماذا يمكن أن نشهد؟».