وليس صدفة أن ما فعلته إسرائيل في الأيام التي سبقت انتخاب رئيس العماد جوزاف عون، وما فعلته عشية الاستشارات النيابية. وفي الحالتين، كيّفت خطواتها مع الإيقاع السياسي اللبناني.
ولكي نكون واضحين، فقد تمكنت إسرائيل، تحت وطأة النار والقتل والدمار، من فرض اتفاق غير متكافئ تقريباً لوقف إطلاق النار، حتى لو بدا النص الحرفي متوازناً.
إن الفقرة الرابعة من الاتفاق، والتي تنص على حق كل طرف في الدفاع عن النفس، تخدم إسرائيل فعلياً وليس لبنان، لأن الطرف هو القادر فعلياً على استئناف الحرب ومواصلتها، بينما لبنان يتلقى هجمات ضمنية، فكيف هذا أيضاً؟ حدث هذا وقد كان الحال لمدة شهر ونصف تقريبا. منذ إعلان وقف إطلاق النار، خلق الإسرائيليون “حالة حرب مصغرة” في الجنوب، لكنهم ربما أعطوا لبنان فرصة للتنفس خلال فترة الانتخابات الرئاسية. ثم، قبل ساعات من تعيين رئيس وزراء جديد، استذكروا استعدادهم لاستئناف الحرب فجأة وبعنف. وقد شملت غاراتهم ليل الأحد وحتى الاثنين مناطق شمال الليطاني، وليس الجنوب، بل الجنوب والبقاع، وأطلقوا العنان لطائراتهم الاستطلاعية للتحليق بشكل عشوائي فوق العاصمة.
الرسالة السياسية لسلوك إسرائيل هي أنها تنتظر من الحكومة اللبنانية أن تضع على أرض الواقع التزاماتها الواردة في اتفاق وقف إطلاق النار فيما يتعلق بسحب الأسلحة غير الشرعية، لكنها لن تنهي الحرب حتى يتحقق هذا الهدف. بل سيستمر في هذا السلوك حتى بعد انقضاء مدة الستين يوماً، وسيواصل توجيه هجماته حسب تقديره في أي مكان يختاره في أي منطقة من مناطق لبنان في جنوب الليطاني وشماله. بل يمكن أن تتعمد الاستمرار في احتلال بعض النقاط الحدودية، بحجة عدم التزام الجانب اللبناني.
لكن العامل الإيجابي في كل هذا الاضطراب هو موقف واشنطن. وتصر إدارة الرئيس دونالد ترامب، وهي تستعد لتولي مهامها مطلع الأسبوع المقبل، على نجاح اتفاق وقف إطلاق النار وتحقيق انسحاب إسرائيلي كامل من الأراضي اللبنانية. لكن واقعياً، لا تستطيع واشنطن أن تمنع إسرائيل من القيام بعمليات عسكرية في لبنان حتى بعد انتهاء المهلة المحددة، إذا بررت ذلك، كما تفعل اليوم، بتقديم تقارير سابقة إلى لجنة المراقبة التي تقودها الولايات المتحدة.
ولذلك قد تواجه واشنطن خيار تمديد المهلة شهراً أو شهرين حتى لا تجبر الجميع على الاعتراف بفشل اتفاق وقف إطلاق النار. إلا أن هذا التمديد ليس خياراً مفضلاً لدى ترامب الملح، إذ سيعيق انطلاق الورشة التي يعدها في لبنان وبقية دول الشرق الأوسط والتي تقوم على منطق إنهاء الحروب وإدخال الصفقات الكبيرة. . وهذا ما يبرر اليوم الضغوط التي تمارسها واشنطن في كل من لبنان وغزة لإطفاء النار وإعداد الحل السياسي خلال أيام قليلة.
ويمكن الاستفادة من رؤية واشنطن لفهم الدور الذي تلعبه في إعادة بناء السلطة في لبنان. وبعد أن نجحت في وصول العماد جوزاف عون إلى منصب رئيس ببرنامج طموح جداً يلبي متطلبات المرحلة، تهدف بإصرارها إلى تشكيل أول حكومة في العصر بهدف مماثل مستوفياً للمواصفات ول البدء فورًا في تنفيذ عناوين قسم المنصب. وتفترض واشنطن أن التزام الحكومة اللبنانية بتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بكل مكوناته سيؤدي تلقائيا إلى انسحاب إسرائيل من لبنان والوقف الدائم لعملياتها العسكرية. ولذلك فإن الأميركيين، ومعهم بقية المجموعة الخماسية، سوف يبذلون كل ما في وسعهم للضغط على الحكومة اللبنانية لحملها على الالتزام بالتنفيذ الفعال والكامل. وهذا هو الشرط الذي يجب توفره لدفع لبنان إلى الأمام.
ومن هذا المنطلق يمكن القول إن نجاح عملية إعادة بناء السلطة والمؤسسات في لبنان مرتبط عضويا بنجاح عملية وقف إطلاق النار وتنفيذ القرارات الدولية، وبشكل أوسع، بفك الارتباط بين لبنان وطهران. – المحور والانفتاح الفعلي على الغرب ودول مجلس التعاون الخليجي وخاصة المملكة العربية السعودية. وبعد سقوط نظام الأسد في سوريا وانقطاع خط الإمداد بين طهران وبيروت عبر دمشق وبغداد، أصبح حل هذه القضية سهلا.
وتماشياً مع هذه الرؤية الطموحة، ستحظى الحكومة التي يقودها خطاب أداء اليمين الدستورية بتغطية عربية ودولية غير مسبوقة.
والحل في لبنان هذه المرة سيكون جزءا من التغييرات الحاسمة التي أدخلت بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وسيشمل الشرق الأوسط برمته، وخاصة قضية إيران، فضلا عن الحرب المستمرة منذ فترة طويلة بين روسيا وأوكرانيا. ويتوقع البعض أن يدير ترامب “غرفة مقاصة” حيث يتم عقد الصفقات وتبادل المصالح والأرباح بين القوى الإقليمية والدولية. ومن الحكمة أن يجد لبنان مكاناً في «غرفة المقاصة» هذه حتى لا ينشأ «فارق العملة».