وبدلا من أن تفكر القوى السياسية، سعيدة كانت أم غاضبة، في التأثير المستقبلي على لبنان، أجرت سجالات وحملات لم تكن مفيدة أو حتى ضارة، وهو مؤشر إضافي على عدم نضج هذه الطبقة السياسية. لأنه غني عن القول أن الزلزال الخطير الذي هز سوريا لم يكن المقصود منه «خدمتنا»، بل شمل مصالح إقليمية ودولية كبرى لا بد من الكشف عن آثارها وتوضيح خلفياتها.
ولا يخفى على أحد أن «علاقة الحب» السرية التي كانت قائمة بين نظام حافظ الأسد والحكومات الأميركية المتعاقبة، بدأت عام 1973 على يد الثعلب هنري كيسنجر. ومنذ ذلك اليوم تعهد الأسد الأب بعدم تجاوز الخطوط الحمراء الأميركية مهما كانت الظروف والاعتبارات، وفي المقابل تعهدت واشنطن بعدم تهديد حكم الأقلية العلوية في بلد ذي أغلبية سنية. ورغم العداء الظاهري، كان هناك هدوء تام على الحدود في الجولان حتى عام 2011، وهو اليوم الذي اندلعت فيه الثورة في سوريا في عهد بشار الأسد.
ولا داعي لسرد الهدايا الكثيرة التي قدمتها واشنطن للأسد الأب مقابل هدايا أخرى لا تقل أهمية. ولذلك ردت واشنطن على تحيات سوريا لمشاركتها في حملة عاصفة الصحراء من خلال منحها حق الوصول إلى قصر بعبدا والسيطرة على كل لبنان. لكن مع تولي الأب والابن السلطة، كان من المنطقي أن تعمل واشنطن على إعادة صياغة علاقتها مع دمشق، خاصة وأن صقور إدارة جورج بوش يستعدون لاحتلال العراق للسيطرة على المنطقة من أجل إعادة ترتيبها. وبينما أبدت إيران، الجارة الشرقية للعراق، أقصى درجات الانضباط والحذر، فتحت جارتها الغربية سوريا، بقيادة رئيسها الشاب، حدودها أمام الجماعات التي تسعى إلى قتال الأميركيين، ولم تكن بصمات إيران بعيدة. جرى التبادل على المسرح اللبناني حيث اغتيل صديق الغرب رفيق الحريري، وتلاه طرد القوات السورية من لبنان. لكن الفراغ السوري سرعان ما ملأه حزب الله بعد اضطرابات واسعة النطاق. اتخذت دمشق خطواتها الأولى نحو عدم الاستقرار. انفجر الشارع في وجه نظام بشار الأسد عام 2011. يومها، وعلى عكس الانطباعات السائدة، تركت واشنطن القيادة العملية لـ«الثورة» لدول الخليج وفرنسا. أما واشنطن فلم تتدخل بشكل فعال، والسبب في ذلك هو أنها كانت لا تزال مقتنعة بمخاطر إسقاط النظام العلوي وكانت إسرائيل متمسكة بشدة بهذه المعادلة. يومها تم التفاوض على حل وسط للحفاظ على استمرارية النظام، ولو باستبدال بشار الأسد بآصف شوكت. لكن شوكت اغتيل بعد فترة قصيرة، وهو الوحيد الذي كان يفكر في استمرار النظام في ظل غياب عائلة الأسد، إذ لم يكن هناك بديل لهذه المعادلة.
لكن مع انتشار الفوضى في سوريا، انضمت إيران بقوة، سواء بشكل مباشر أو عبر حلفائها، وأبرزهم حزب الله، وبدأت في السيطرة على مفاصل الدولة. وفي عام 2015، لم تعارض واشنطن دخول روسيا لإنقاذ النظام الذي كان على وشك الانهيار. ويراهن الأميركيون على أن الدخول الروسي سيحد من التوسع الإيراني ويحتويه. ويتضمن كتاب جون بولتون محضر لقاء مع الرئيس الروسي حول هذه النقطة. وقد أعرب بوتين عن دعمه الكامل لاحتواء إيران في سوريا، لكنه لا يستطيع القيام بذلك الآن لأن قواته الجوية تحتاج إلى مجموعات برية موالية لإيران. وفي الواقع، تزايد نفوذ إيران وحلفائها في سوريا، التي أصبحت قاعدة إيرانية وممراً مفتوحاً لإمدادات الأسلحة إلى حزب الله، وتشكل قاعدة استراتيجية للحلم الإيراني بالوصول إلى الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. لكن المؤسسات الأميركية، التي بدأت منذ سنوات عديدة في وضع استراتيجية جديدة تتظاهر بصد العدوان الروسي واحتواء التوسع الصيني، وجدت أنه من الضروري إغلاق ساحل البحر الأبيض المتوسط في وجه روسيا والسيطرة على الشرق الأوسط نظراً للطموحات الصينية. وهذا يعيد رسم الخريطة السياسية في المنطقة. وهذا يعني استعادة النفوذ الأميركي على شواطئ لبنان، ووضع معادلة جديدة في لبنان وسوريا. وكان الهدف من عملية طوفان الأقصى دفع اتجاه إعادة النظام إلى المنطقة بأكملها ودراسة جدوى الاحتفاظ بخريطة سايكس بيكو، وبالتالي خلق خريطة جغرافية جديدة.
ولعل الخطأ الفادح الذي ارتكبه الأسد الابن هو أن معادلة التشبث ببقاء النظام لا تزال قائمة، وأنه لا يوجد بديل لواشنطن من جانب عائلة الأسد. لكن الدور الجديد الذي تضطلع به تركيا يشير إلى خلاف ذلك. وكانت أنقرة حساسة بشكل أساسي للغزو الروسي لسوريا، وخاصة قاعدتها البحرية في طرطوس، بالقرب من الساحل التركي. ويعكس الاشتباك الذي وقع عام 2015، عندما أسقطت تركيا طائرة حربية روسية دخلت المجال الجوي التركي عن طريق الخطأ، مدى الحساسية الموجودة. ولذلك كان من المفهوم أن واشنطن أعطت تركيا هذا الدور المهم في سوريا.
لكن التشابكات التي تنشأ تجعل اللعبة معقدة وصعبة. وهو يلخص ما قاله إليوت أبرامز (أحد الصقور في إدارة جورج دبليو بوش) يوم الاثنين الماضي في ندوة عقدها المعهد اليهودي الأمريكي للأمن القومي بأن واشنطن بحاجة إلى العمل مع أنقرة في سوريا “لمعرفة ما تفعله تركيا بالضبط. “سورية تريد”، وما تهدف إليه فعلياً.
إنها إذن مرحلة اختبار دقيقة تجريها واشنطن لتركيا التي عملت بمهارة ومكر في المرحلة الأخيرة. تجدر الإشارة إلى أن دونالد ترامب، الذي سينتقل قريبا إلى البيت الأبيض، سبق له أن أعرب عن إعجابه بشخصيات الحكام الأقوياء مثل بوتين وأردوغان. ولكننا هنا نتحدث عن مصالح الدول. في سوريا هناك لاعبان دوليان رئيسيان، واشنطن وأنقرة، ولاعب رئيسي ثالث ولكن غير مرئي، تل أبيب. وهذا التشكيل الدولي الجديد يعزز حضوره على أنقاض النفوذ الإيراني وتراجع الوجود الروسي.
وحتى الآن، أعطت تركيا إشارات إيجابية من خلال أحمد الشرع (الجولاني)، بقولها: لم يعد هناك حروب، متمسكة بحماية الأقليات الدينية، ودخول سوريا إلى حالة الحكم الرشيد. ورافق ذلك إبرام اتفاق محلي مع الأكراد بعد مواجهات شرسة ودموية استمرت ثلاثة أيام ومثلت الاختبار الميداني الأول بين نفوذ واشنطن وأنقرة.
أما إيران فلا شك أنها تلقت ضربة استراتيجية بخسارة الممر والقاعدة الأساسية بعد هجومين متتاليين في غزة ولبنان. ولم تخفف من وطأة هذه الخسارة التصريحات المرنة لمسؤوليها، الذين دعوا إلى أن يختار الشعب السوري قادته، وأن طهران فتحت قنوات اتصال مباشرة مع بعض فصائل المعارضة السورية.
لكن هذا لا يلغي بعض الإشارات الإيرانية الغريبة التي رافقت سقوط نظام الأسد. وبدأت سحب ضباطها ومستشاريها من سوريا الجمعة، قبل يومين من سقوط دمشق. وتلا ذلك انتقادات للرئيس السوري “العنيد”. وكانت هناك شائعات بأن الأسد كان حذرا بشأن إيران في الأشهر الأخيرة ودعا إلى خفض قواته في سوريا. كما شعرت طهران بالفزع من مواقفها بشأن حربي غزة ولبنان.
لكن الدوائر الدبلوماسية تتحدث بشكل مختلف. بلغ الغضب الأميركي ضد بشار الأسد ذروته عندما أخلف، عبر طرف ثالث، وعده لواشنطن بعدم السماح بتزويد حزب الله بالسلاح خلال الحرب. ثم اكتشفت واشنطن أن إيران تمكنت من تزويدها بالأسلحة والصواريخ في ذروة الحرب، مما أدى إلى قيام طائرات إسرائيلية مسعورة بقصف حدود ومناطق سهل البقاع الشمالي. وبالمثل، مع سقوط حلب عبر طرف ثالث، أشارت واشنطن للأسد إلى أن عليه أن يجعل المسافة بينه وبين إيران معروفة وأن يبدأ إصلاحات سياسية داخلية مع أحزاب المعارضة من أجل منع سقوط دمشق. لكن الوعد الذي نقله الأسد لم ينفذ. وهنا تطرح أسئلة حول حقيقة الموقف الإيراني. وذلك لأن سقوط سوريا أثبت بعد إيران عن شواطئ البحر الأبيض المتوسط، لكنه ترافق مع تصريحات غريبة لنائب الرئيس محمد جواد ظريف تعطي الأولوية للاقتصاد والانفتاح على الغرب، وخاصة واشنطن.
وبما أن اللعبة أكثر تعقيداً مما يعتقده الكثير من الناس، كان لا بد من استبدال الهتافات والرثاء بنظرة تفصيلية وعميقة إلى الاتجاه الذي تسير فيه الأمور والاحتمالات التي تلوح في الأفق بالنسبة لمستقبل لبنان، بدلاً من الجدال والجدال مثل قبل. الأولاد في سن البلوغ.