واللافت أن التطورات السريعة التي فاجأت العالم وأدت إلى رحيل الرئيس لم تكن عنيفة – على عكس ما توقعه كثيرون – إذ حرص على حماية الأقليات الدينية والطائفية في المناطق وتحييد المؤسسات المدنية الرسمية ومراكز الشرطة. وتسهيل انسحاب… وحدات قتالية رسمية لم تقاتل أو تمركزت في أماكن وقعت تحت سيطرة المعارضة. وإذا كان هذا الأمر يدل على شيء، فإنه يشير إلى عمل متقن يتم تنفيذه بشكل تضامني ومتضامن من قبل دول إقليمية ودولية، مثل تركيا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وقطر. وكان لهذا العمل دوره في ظهور “أبو محمد الجولاني” بمظهر “جديد” سواء من خلال التعريف عن نفسه باسمه الحقيقي أو من خلال ظهوره في وسائل الإعلام العالمية مثل (CNN) واقتراحاته التي سيطر عليها ولهجته المعتدلة ودعوته إلى عدم الاعتداء على أحد والحفاظ على وحدة سوريا وتنوعها. بعد انسحاب القوات السورية من حمص بعد الاستعدادات الكبيرة للدفاع عن المدينة واتجاهها نحو الساحل السوري، كان واضحاً أن شيئاً ما قد حدث على المستوى السياسي في الدوحة يتطلب خطوة كذا وكذا من بشار الأسد. كان الأسد هو صاحب الرأي الوحيد الذي يرى أنه لا فائدة من القتال وأنه من الأفضل له أن يغادر البلاد. وفضل عدم السفر إلى الساحل السوري.
بعد هذا العرض لا بد من استخلاص الاستنتاجات التالية:
1- على الأقل في المستقبل المنظور، هناك رغبة على المستوى الدولي والإقليمي في الحفاظ على جغرافية سورية موحدة.
2- الوعد ببدء العملية السياسية في البلاد من خلال مصالحة وطنية شاملة وإجراء انتخابات نيابية وفق قانون جديد غير القانون الحالي، يتيح توليد سلطة أكثر تمثيلاً لمكونات الشعب السوري و يمكن أن يكون توزيعها وسيلة توفر التوازن.
3- النظر في الاتفاقيات والعقود المبرمة بين الدولة السورية في عهد النظام السابق وروسيا في جانبها الدفاعي ومسألة السماح بوجود قاعدة بحرية في طرطوس وقاعدة جوية في حميميم. وكذلك الاتفاقيات المبرمة مع الإسلامية الإيرانية.
4- إعادة التفكير في الجيش السوري بهدف تغيير تركيبته وإعادة تشكيل هرمه القيادي، دون الرجوع إلى التجربة العراقية السابقة عندما تم حل الجيش والذي كان سبباً في المآسي التي حلت ببلاد الرافدين قبل استعادتها.
لكن هناك أسئلة يطرحها الدبلوماسيون والمراقبون:
أ- كيفية التعامل مع واقع قائم موروث من النظام السابق: حزب البعث: هل سيبقى أم ستحله السلطة الجديدة وتصادر ممتلكاته وتمنع منتسبيه من المشاركة في العملية السياسية، بعد قانون جديد للحفلات؟
ب- كيف سيبدو النظام: مركزي بشكل صارم، أو غير حصري، أو لامركزي إلى حد كبير؟
ج- ما الذي سيتم فعله مع الأكراد، وخاصة قوات سوريا الديمقراطية، التي تسيطر على مساحة كبيرة من سوريا، ربما تتجاوز قدرتها على الاحتفاظ بها، وهل ستسمح واشنطن بمهاجمة هذه القوات المتحالفة؟ دون تعويض سياسي؟
وبالنظر إلى الواقع الجديد في سوريا وما ينتظرهم من النظام الجديد، لا بد من طرح الأسئلة التالية:
1- في السياسة الخارجية: ما هو الدور الذي ستلعبه تركيا في ظل النظام الجديد؟ وهل ستشبه في علاقاتها المميزة تلك التي كانت قائمة في عهد الحكم البعثي بين دمشق وموسكو وطهران؟ وفي هذا الصدد، لا يمكن تجاهل الشراكة التركية القطرية في إسقاط الأسد، خاصة أن لقاء الدوحة كان حاسماً لعملية إزاحته ورحيله وتم اختيار بعض الأسماء لقيادة الفترة الانتقالية. وأشار إلى أن العلاقات مع قطر قد تم إغلاقها بالفعل.
2- هل سيلزم الحكم الجديد روسيا بتفكيك القواعد البحرية والجوية في طرطوس وحميميم أو على الأقل تغيير بند مدة وجودها لتقصيرها؟
3- هل يمنح الحكم الجديد راحة للدول الأخرى من خلال السماح لها بتصدير غازها إلى أوروبا عبر خطوط الأنابيب الساحلية، وبالتالي إنهاء التفرد الروسي في هذه القضية؟
4- العلاقة مع إسرائيل: هل يسعى النظام الجديد إلى تطبيع العلاقات مع الكيان العبري والتعهد بعدم إثارة قضية ضم الجولان المحتل، على الأقل في الوقت الحالي، وانتظار الشروط الدولية والعربية؟ هل يجب أن تنضج وتوضح خصائص المحاولات القائمة مع إسرائيل لتحقيق «حل الدولتين»؟ وطالما لا يوجد فلابد لي من التطبيع معها.
5- ما هي النتيجة المستقبلية لعلاقات سوريا مع روسيا والصين وإيران؟ ويبقى السؤال الأكبر: متى ترفع الولايات المتحدة الأمريكية العقوبات عن سوريا وتوقف تطبيق “قانون قيصر” باعتباره البوابة الأساسية لكسر الحصار الدولي على سوريا واستعادة عملية ضخ الدم في الشرايين؟ والاقتصاد السوري المتعثر، بعد أن ساهم هذا الاتفاق على مر السنين في إضعاف سوريا وتقويض تماسكها الاجتماعي وإضعاف التربة الخصبة للأسد؟ والأهم هو: من سيعيد البناء والاستثمار في سوريا؟ فهل ستتمكن روسيا من الاحتفاظ بمطالبتها بالاستثمارات التي تلقتها في العديد من المناطق السورية في عهد الأسد؟ وليس سراً أن العديد من الدول ترغب في الاستثمار في البناء وإعادة الإعمار والبنية التحتية والنفط والاتصالات. وستتصدر تركيا إلى جانب قطر قائمة الدول التي ستستحوذ على حصة كبيرة من الاستثمارات، وكذلك مصر إلى حد ما، بالإضافة إلى بريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا ومجموعة من الدول التي ستحصل على حصة كبيرة من الاستثمارات. من الشركات اللبنانية والشركات المتعددة الجنسيات. لكن للولايات المتحدة فصلاً آخر يتعلق بمصالحها في سوريا الجديدة، سواء من خلال الرغبة أو حتى الإصرار على الاستثمار في النفط أو الحفاظ على قواعدها العسكرية في التنف وشمال وشرق البلاد. أما الخاسرون ففي مقدمتهم: روسيا والصين وإيران. وإذا كانت خسارة بكين المؤقتة خسارة اقتصادية بعد أن أكملت البلاد استعداداتها الاستثمارية في سوريا، فإن خسارة موسكو وطهران كبيرة جداً، خاصة عندما يتعلق الأمر بمسألة البروتوكولات والمعاهدات الموقعة في عهد الأسد مع سوريا. الدولة ستطرح للنقاش وفي كل الأحوال لن تبقى كما هي. وتضيف أن وجود نظام جديد في سوريا سيقطع خطوط الاتصال بين المقاومة في لبنان وإيران. ويزيد من التعقيدات على الساحة العراقية.
باختصار، في الوقت الحاضر – وعلى مستوى الأنظمة المحيطة بدولة إسرائيل – ابتعدت المنطقة عن دائرة نفوذ المقاومة إلى دائرة نفوذ الولايات المتحدة ومن هم في دائرة نفوذها. . وفي جميع الأحوال لا يوجد سبب لإنكار المكاسب الكبيرة التي حققتها إسرائيل على حساب دماء الشعوب العربية ودورها.
ولكن أين لبنان من كل هذا: اليوم الجميع متساوون، لا فائز مطلق ولا خاسر مطلق، والتجربة تعلم أنه لا يمكن لأحد أن يستثني أحداً في هذا البلد المعقد، حتى لو تكبدت المقاومة خسائر فادحة في حرب إسرائيل ضدها و إسقاط النظام السوري. ولذلك فإن هيمنة حزب على آخر لا تساعد على خلق الاستقرار. التطورات في سوريا يمكن – بل ويجب – أن تكون البوابة الرئيسية التي يعود من خلالها النازحون إلى وطنهم بعد زوال أسباب نزوحهم. ويبقى السؤال الأخير: هل تتحقق الوعود الوردية بشأن مستقبل سوريا؟ أم أنه يستعد لفصول لم تتضح معالمها بعد؟ مع بداية الانتفاضة ضد النظام، هل سيستمر الاستقرار المأمول والبدايات الدقيقة لقوى المعارضة؟ فهل ستتمكن سوريا الجديدة من استيعاب «طائفة» جديدة توزع السلطة وتحمي التنوع؟ هل ننتظر لأن الغد قريب؟