كان مقتل يحيى السنوار نقطة تحول في حرب غزة. سمحت لإسرائيل بالحديث عن النصر وإعداد غزة لواقع جيوسياسي جديد لا مكان فيه لحماس بعد أن فقدت هيكلها التنظيمي وقدراتها العسكرية وقواعدها الراسخة فوق الأرض وفي الأنفاق، وتشديد حصار غزة وزيادة الهجرة للهروب من الموت بالقتل أو الجوع أو المرض.
النتيجة الأولى لحرب غزة بعد مرور عام على اندلاعها هي: 43 ألف قتيل، وأكثر من 100 ألف جريح ومعاق، وعدد غير محدد من المفقودين، ونحو مليون مشرد، ودمار كثير من الأحياء والمرافق والبنية التحتية. وفي النهاية، سيطر الإسرائيليون عسكريًا على غزة ودمروا معظم الأنفاق الممتدة خارج القطاع والتي اعتمدت عليها حماس لإيصال الأسلحة والذخيرة والأموال وغيرها من الإمدادات.
سياسياً، انتهت الحرب هناك باقتلاع شبه كامل لـ«حماس»، الأمر الذي فتح الباب أمام «إحصائية» سياسية جديدة تعتمد على قوى فلسطينية أخرى. وكان من الممكن أن تتولى السلطة الفلسطينية مسؤولية إدارة قطاع غزة، لكن إسرائيل فضلت سكان غزة المحليين الراغبين في التعاون مع السلطة الفلسطينية. وفي كل الأحوال فإن بنيامين نتنياهو لا يريد إنهاء الحرب هناك إلا إذا توافرت الظروف الملائمة لتنفيذ خطة التدمير والتهجير وما يتبعها من توسيع المستوطنات، الأمر الذي من شأنه أن يغير الواقع الديمغرافي لقطاع غزة.
ومن الواضح أن إسرائيل أمضت 11 شهراً في تمهيد الطريق لهذا التغيير. وبدأت مؤخراً بتنفيذ ما يسمى «خطة» الجنرالات المتقاعدين، وأبرزهم جيورا آيلاند، صاحب مشروع إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط. وتتوخى إخلاء كافة مناطق قطاع غزة من سكانها واحدا تلو الآخر، بعد إعلانها مناطق عسكرية وتركهم يعانون من الجوع والعطش، مما دفع السكان إلى هجرها بشكل كامل. وبعد ذلك يتم بناء المستوطنات في المدن والقرى المدمرة.
أما في لبنان، فقد حافظت الجبهة على هدوء معين طوال أحد عشر شهراً تحت غطاء حرب الاستنزاف التي فرضها حزب الله. ومع تفاقم الوضع، وسعت إسرائيل حربها ضد لبنان، وبدا أنها بدأت في تكرار سيناريو غزة.
في 17 سبتمبر/أيلول، أطلق الإسرائيليون عمليتهم العسكرية ضد حزب الله، بدءاً بهجمات “البيجر” واللاسلكي، وتصفيات صادمة وسريعة على مستوى الكادر والتنفيذ. وبعد عشرة أيام وصلوا إلى السيد حسن نصر الله وهم يلاحقون الكوادر في كل لبنان، لا سيما في البقاع والضاحية الجنوبية. كما أنها تستهدف بشكل ممنهج مستودعات الأسلحة والصواريخ والذخائر، حتى على الأراضي السورية، عند التقاطعات والأنفاق.
ونتيجة لهذه الضربات، بدا «الحزب» مرتبكاً في المواجهة طوال أيام، لكنه سرعان ما استعاد بعض فعاليته ومرونته على ثلاثة مستويات:
1- عودة قيادته المؤقتة إلى المناورات السياسية من خلال إعلان الشيخ نعيم قاسم بشأن وقف إطلاق النار ومدى اعتماد القرار 1701.
2- إثبات القدرة على إلحاق الأذى بإسرائيل في حرب الطرق التي تخوضها في الكيلومترات الأولى شمال الخط الأزرق.
3- تحسن الأداء في مجال استخدام الصواريخ الموجهة، مما أدى إلى وقوع خسائر فادحة داخل إسرائيل والمواقع العسكرية هناك.
ويبدو أن الوضع الحالي في لبنان يشبه إلى حد كبير المشهد في غزة: تصفية قيادات، وهجوم على المستودعات والأنفاق، وانقطاع الإمدادات، والتهجير بعد التدمير. لكن الأخطر من ذلك هو تنفيذ ما يشبه “خطة الجنرالات” لغزة في جنوب لبنان، حيث بدأ الجيش الإسرائيلي بإنشاء منطقة بعمق 5 كيلومترات مدمرة ومحترقة ومهجورة بالكامل، وستطبق إسرائيل قوانينها وإطلاق النار على “كل ما يتحرك” على غرار “ماذا ستفعلون في مناطق مماثلة في غزة؟”
وهذا التشابه في الواقع على الأرض، يوازيه تشابه في الواقع السياسي الداخلي بين لبنان وفلسطين، حيث هناك خلاف مدني حاد حول مفاهيم “المقاومة”، وأساليب عملها، ومشروعية حيازتها للسلاح. الخ وتمسكها بقرارات الحرب والسلام على حساب السلطة المركزية.
وبناءً على هذه المعطيات، يمكن التنبؤ بالمرحلة المقبلة من حرب لبنان. وكما فقدت حماس نفوذها في غزة، حيث تتمتع إسرائيل الآن بسيطرة عسكرية، أحياناً من خلال الغزوات البرية وأحياناً من خلال ضربات خاطفة، فمن المرجح أن يتكرر هذا السيناريو في لبنان. وفي الأسابيع أو الأشهر القليلة المقبلة، من المرجح أن تتوحد مناطق النار والمناطق العازلة في لبنان بعد أن أعلنت إسرائيل انتصارها العسكري والسياسي هنا، على غرار ما فعلته في غزة. وسيكون لذلك آثار سياسية عميقة في جميع أنحاء دول الشرق الأوسط، خاصة إذا نجحت إسرائيل في جذب الولايات المتحدة إلى منطقة الحرب للقتال من أجلها على الجبهة الإيرانية. وهذا هو المرجح من سيفوز بالانتخابات الرئاسية.
فهل ينقذ لبنان رأسه باستيفاء كل متطلبات الشرعية الدولية؟
هناك من يخشى أن يكون الوقت قد فات لمنع وقوع الكارثة، وأن لبنان سيعاني نفس مصير غزة في غضون أسابيع أو أشهر قليلة، حيث لا يبدو أن أحداً قادر على مساعدته في توفير المساعدة له.