يقول دبلوماسي مطلع على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط ولبنان: «منذ اتفاق الطائف، عمل الأميركيون جاهدين لضمان استقرار لبنان وسلطته المركزية حتى تتمكن من الاستمرار حتى نهاية العام وتبقى على استعداد لقبول ذلك». الانضمام إلى اتفاقيات إقليمية كبيرة”. وفي عام 2005، وبعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر وحرب العراق، سعت الإدارة ومعها الرئيس جورج دبليو بوش إلى عزل لبنان عن أزمات المنطقة من خلال العمل على القضاء على سوريا ووصايتها للانسحاب من قراراته.
لكن مسار الأحداث في لبنان اتخذ بعد ذلك شكلاً معاكساً. فقوى 14 آذار، التي تراهن على إدارة العلاقات مع حزب الله في إطار العلاقات الداخلية من دون تدخل أميركي، اصطدمت به واصطدمت مباشرة بالنفوذ الإيراني وحده. ورغم أن الحرب انتهت في تموز/يوليو 2006 بالقرار 1701، الذي أتاح فرصة ثمينة لإعادة التأكيد على دور الدولة المركزية في مواجهة نفوذ إسرائيل وإيران في الوقت نفسه، إلا أن قوى 14 آذار ضعفت تدريجياً تحت ضغوط مختلفة، بما في ذلك محاولات الاغتيال، حتى وصلت إلى مرحلة الضعف. وأخيراً سلموا السلطة لخصومهم.
وفي هذا السياق، بدأت ولاية باراك أوباما وفتحت طهران قنوات التفاوض مع الحكومة الديمقراطية حول ملفها النووي ونفوذها الإقليمي، والذي انتهى باتفاق فيينا عام 2015.
وفي عام 2017، أعاد الجمهوريون نسخة جديدة من ترامب إلى البيت الأبيض، وعادوا معه المواقف المتشددة تجاه طهران وحزب الله. ولكن هناك فرق مهم بين بوش الابن وترامب. فالأولى فضلت حل المشاكل عن طريق الحرب عندما كانت الضغوط السياسية والاقتصادية غير كافية، بينما فضلت الأخيرة استخدام هذا الضغط لإجبار المعارضين على اتفاق شامل بينما كانوا في موقف ضعيف.
منذ اللحظة الأولى لولايته الأخيرة في منصبه، قرر ترامب تشديد الحصار على حزب الله. وفي هذا السياق، عطلت حكومته تأثير مؤتمر “سيدر” بحجة أن أموال المساعدات التي تدخل لبنان وقعت في أيدي حزب الله وعززت نفوذه في البلاد. وفي العام التالي، 2019، من الواضح أن إدارة ترامب قدمت الدعم المعنوي لانتفاضة 2019. لكن المثير للاهتمام هو أن نتائج الحصار الأميركي هي التي أدت إلى انهيار لبنان، وليس فشل حزب الله. وكما هو الحال في انتفاضة 2005، احتفظ «الحزب» بالسيطرة على أكبر القرارات الرئيسية حتى رحيل ترامب دخل جو بايدن البيت الأبيض لاستعادة نهج أوباما.
خلاصة السنوات العشرين الأخيرة في لبنان هي أن الجدل لا يزال محتدماً في الأوساط المعنية: من المسؤول عن فشل قوى 14 آذار في مواجهة إيران ومنحها السيطرة على قرار المركزي بالانسحاب؟ : «فشل» الحكومات الأميركية أم «إهمال» الحلفاء في لبنان وعدم جديتهم في المواجهة؟
ولا يخفى على أحد أن الجانبين يتهمان بعضهما البعض بالمسؤولية عن هذا الفشل. وقال فريق 14 آذار إن واشنطن تكتفي بدعمه سياسياً، أي «لفظياً»، ولا تتخذ خطوات عملية لإضعاف إيران أو قطع تدخلاتها ودعم «الحزب» بالمال والسلاح المفتوح في سوريا. والعراق، بالإضافة إلى التقارير السياسية. وقد تساءل هذا الفريق مراراً وتكراراً: كيف يمكن لقوات محلية ذات حجم وقدرات محدودة مواجهة محور إقليمي ضخم لا تستطيع الولايات المتحدة وحلفاؤها إضعافه؟
وخلافاً لهذا المنطق، يقول الأميركيون المتحمسون لترامب إن الإدارات لم تتقاعس عن دعم القوات المتحالفة في لبنان، وإن إدارته واجهت إيران بقوة، ووجهت ضربات موجعة وشددت الحصار على حلفائها في الشرق الأوسط، لكن الولايات المتحدة كما ولا يمكن لدولة أن تخوض حرباً معها. وتقع على عاتق قوى 14 آذار مسؤولية تنسيق أعمالها سياسياً لتكون أكثر فعالية باستخدام الوسائل الديمقراطية المتاحة.
الرد بهذا الخصوص جاء في 14 آذار/مارس في انتخابات 2022 التي تمكنت من إدخال أغلبية معارضي «الحزب» ومجموعة من «المستقلين» إلى البرلمان. لكن التوازن السياسي وتوازن القوى في اتخاذ القرار لم يتغير مع تغير الأغلبية في المجلس. وبحسب قوى 14 آذار، فمن السخف الرهان على تغيير الوضع السياسي طالما استمر الدعم العسكري والمالي الذي تقدمه إيران.
أما الآن فقد اختلفت الصورة، ولو إلى حد ما، إذ حصلت تحولات هي الأولى من نوعها في لبنان والمنطقة. وخسر «الحزب» فعلياً خط الدعم الإيراني والخلفية التي قدمها له نظام الأسد، وتراجعت قدراته بسبب الحرب، لكن حدود التراجع لم تتضح بعد. هناك اعتقاد في واشنطن بإمكانية جدية تحقيق الهدف الذي طالما سعى إليه الأميركيون في لبنان: تغيير واقع السلطة. ويعتقدون أن «البنية التحتية» لتحقيق هذا الهدف هيأت بانتخاب رئيس جوزف عون وتعيين نواف سلام رئيساً للحكومة، وأن ذلك سيكتمل بتشكيل حكومة تكون متوازنة ومتوازنة مثلهم. والذي ينبغي أن يكون برنامجه الإصلاحي. لكن نجاح هذا المشروع يعتمد واقعيا على نجاح اتفاق وقف إطلاق النار في الجنوب، وانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها، وانتشار الجيش. وسيتم الإعلان عن ذلك يوم الأحد المقبل عند انتهاء فترة الـ 60 يومًا.
في اليوم الأول لعودة ترامب إلى البيت الأبيض، يمر لبنان بأيام حساسة جداً، بين إعلان تشكيل الحكومة وصياغة برنامجها وانتهاء مهلة الستين يوماً. سيتم تحديد الاتجاه في غضون أسبوع: هل أتيحت لترامب فرصة التغيير الذي سعى إليه بوش في لبنان قبل عشرين عاما؟ أم سيضيع الهدف من جديد في انتظار مفترق احتمالات قد تكون هذه المرة بعيدة كل البعد؟