من الصعب فهم الظروف والغموض غير المبرر الذي يحيط بالتنفيذ المزعوم لاتفاق وقف إطلاق النار. والأخطر من ذلك أن الطرفين المعنيين يعيشان هذا الغموض وكأنهما وافقا عليه. وتتزايد المخاوف من أن تستغل إسرائيل افتقار حزب الله إلى الحماس للتخلي عن أسلحته لتبرير استمرار احتلاله، في حين يسعى الحزب نفسه إلى كسب الوقت، ربما في لبنان أو سوريا أو أي مكان آخر للدخول. وتمكينها من استعادة بعض قدراتها التي دمرتها الحرب. وهذا ما تؤكده مواقف متتالية لـ«الحزب» وطهران، آخرها إعلان المتحدث باسم «الحرس الثوري» الإيراني علي محمد نائيني أن «الحزب» «سرعان ما أعاد بناء نفسه واستعاد قوته وبدأ أكثر دقة في التصرف». عمليات أعمق وأكثر تدميراً لتدمير العدو.” وفي عمليتها الأخيرة، أجبرت ثلث سكانها على اللجوء إلى الملاجئ وتمكنت من استخدام قوتها المقدرة بـ 15000 مقاتل لوقف الحركة. لشل الجيش الإسرائيلي المجهز بأحدث المعدات.
وبطبيعة الحال، تريد طهران إظهار قوة «الحزب» بهذا الموقف. لكن إسرائيل ستتمسك به وتستغله بالمعنى المعاكس، حيث تراه اعترافاً رسمياً وصريحاً بأن «الحزب» لا يزال قادراً على تعريض أمن الشمال للخطر. وسوف يتخذون من هذا الاعتراف ذريعة لمواصلة عملياتهم القتالية على الأراضي اللبنانية، انطلاقاً من فهمهم لبند “الحق في الدفاع عن النفس” الوارد في اتفاق وقف إطلاق النار. ويحظى هذا المفهوم بدعم وتأييد واشنطن.
وعلى أية حال، فإن إسرائيل ليس لديها نقص في الذرائع. ولم يتوقفوا قط عن انتهاك الاتفاق وقصف وتخريب المنازل وغيرها من البنى التحتية. فبدلاً من التراجع تدريجياً نحو الحدود، تعمل بشكل واعي على توسيع دائرة احتلالها وإطلاق العنان لآلياتها لاختراق مناطق جديدة. وتمنع السكان من العودة إلى قراهم وتستهدفهم أحياناً. كما أعلنت أنها ستنفذ غارات جوية على أنفاق قتالية ومستودعات أسلحة وذخائر مزعومة. ولم تتوقف عن تصفية كوادر حزب الله، ليس فقط في الجنوب، بل أيضاً في منطقة البقاع.
والحقيقة أن إسرائيل تستغل حالة الارتباك والغموض التي تتسم بها طريقة تعامل الجانب اللبناني مع الاتفاق. وحتى اليوم، لا يزال يتجنب الخوض في تفاصيل كافية حول الخطوات التي نفذها أو سينفذها في الجنوب وخارجه. ومن غير الواضح ما إذا كانت لجنة مراقبة التنفيذ تتلقى تقارير منها في هذا الصدد. لكن يبدو أن هذه اللجنة التي تقودها الولايات المتحدة، والتي اجتمعت مرتين فقط اليوم، تلتزم الصمت التام وتسمح لطرفي الصراع بالعمل على الأرض دون تدخل كبير. وبهذا الصمت فهو يشير إلى موافقتها على ما تفعله إسرائيل، بل ويمنحها الفرصة للاستمرار بقدر ما تريد. وهذا يثير المخاوف بشأن الوضع الذي سينشأ بعد انتهاء فترة الستين يومًا.
ويرى خبراء الشؤون العسكرية أن استمرار الإهمال من جانب الطرفين في الالتزام ببنود الاتفاق بعد انقضاء مهلة الشهرين سيؤدي حتما إلى فشل الاتفاق. وهم يعتقدون أن لبنان يتجه نحو أحد احتمالين:
1- استئناف الحرب طوال مدتها. وهذا أمر يرعب لبنان وترفضه القوى الدولية، وخاصة واشنطن، حيث تغيرت الحكومة من جو بايدن إلى دونالد ترامب قبل أسبوع.
2- تمديد فترة الـ 60 يوماً لمنح الطرفين فرصة أخرى. وهذا هو الاحتمال الأرجح. وهناك من يرى أن الوسيط الأميركي عاموس هوشستين، راعي الاتفاق، يمكن أن يكون مسؤولاً عن الترويج لهذه الفكرة خلال زيارته المقبلة إلى بيروت، بالتوازي مع مهمته لضمان انتخاب رئيس للجمهورية. ومن شأن هذا التمديد أن يؤخر اصطدام الطرفين بالجمود ويمنح الوسطاء بعض الوقت للتدخل.
لكن ما هو واضح هو أن إسرائيل بدأت تستعد لبقاء أطول في الجنوب. وقد أظهر ذلك في الساعات الأخيرة من خلال تمديد بقاء سكان الشمال خارج منطقته ثلاثة أشهر أخرى، والتهديد علناً بعدم الانسحاب من لبنان بحجة أن «الحزب» غير ملتزم بالاتفاق. وخلال زيارته للجنوب قبل يومين، أصدر رئيس أركانه هرتسي هليفي تحذيراً تضمن العديد من الأهداف الخفية: “لقد حققنا نصراً عسكرياً على حزب الله، لكن النصر الحقيقي هو على المدى الطويل”. يعيش الكثير من الناس هنا، وهناك الكثير من السياحة والمطاعم والمقاهي. وهذا نصر دائم». ويثير هذا الخطاب مخاوف بشأن نية إسرائيل البقاء في هذه المنطقة المدمرة والمحترقة حتى يصبح الشمال واحة للرخاء الاقتصادي. وهذه الذريعة قد لا تتحقق قبل سنوات، ستستمر خلالها إسرائيل في احتلالها حتى يصبح أمراً واقعاً.
ولذلك فإن الأسابيع الأربعة المتبقية حتى 27 يناير حساسة للغاية. وتقع على عاتق الجانب اللبناني، أي حزب الله والحكومة، إزالة أدنى ذريعة والضغط بأي شكل من الأشكال على إسرائيل للالتزام بالاتفاق والخروج من لبنان. المرحلة مليئة بالتعقيدات على مستوى الشرق الأوسط برمته، وإسرائيل تبحث عن سبل للإبقاء على احتلالها وتوسيعه، من غزة والضفة الغربية إلى لبنان وسوريا وربما الأردن… والقادم أكبر .