وتعتزم واشنطن مع العواصم الأوروبية انتهاج سلوك يؤكد أنها ليست معادية للشريعة ولذلك فهي مهتمة بالتواصل معها وإقامة علاقة مباشرة معها بعد فترة طويلة من انقطاع الوفود إلى دمشق عن ذلك وإعادة الانفتاح. من بعض السفارات. لكن، رغم هذا السلوك الإيجابي، هناك شيء من التأخير في الاعتراف رسمياً بـ«سلطة» الشريعة ومنحها الشرعية الدولية، في انتظار تأكيد تنفيذ وعودها، بدءاً بالوعود الملحة. ولذلك يمكن تلخيص سلوك الغرب بأن كل خطوة من خطوات الشريعة تصاحبها خطوة من الدول الغربية.
إن القضايا الملحة كثيرة، بدءاً من شكل السلطة التي ستوفر الحكم ومستوى مشاركة مختلف الأطياف السياسية (الأكراد) والطائفية (الأقليات الدينية) في المجتمع السوري. في المقابل، هناك خطوات عاجلة تحتاجها سوريا، مثل رفع العقوبات وإعادة إحياء الدورة الاقتصادية، فضلاً عن استعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة. وفي هذا السياق، تعتبر زيارة نائبة وزيرة الخارجية الأميركية باربرا ليف إلى دمشق خطوة أميركية واعدة لكنها حذرة. وذلك لأن ليف تستعد لترك منصبها، مما يعني أنه يمكن إلقاء اللوم على أي تحرك سوري لاحق غير مكتمل، بينما ستتم مراقبة أي تقدم من قبل الإدارة المقبلة. لا شك أن المهمة الأصعب تبقى إعادة إعمار الاقتصاد السوري المدمر، وستكون هذه عملية بطيئة، مع الأخذ في الاعتبار أن 90% من الشعب السوري أصبح فقراء والدورة الاقتصادية مشلولة ومدمرة.
إن انعقاد المؤتمر الوطني السوري المدعو إليه ومهمته تحديد شكل المرحلة المقبلة يشكل تحدياً أساسياً لتطبيق مبدأ التفاهم، وإلا فإن الخلافات القائمة قد تتسع وتؤدي إلى انقسامات خطيرة. وتدرك العواصم الغربية أن أحمد الشرع يزداد نفوذه على هيئة تحرير الشام، لكن هناك تساؤلات وحتى شكوك حول المجموعات المسلحة الأخرى التي قاتلت إلى جانبه ولكنها ليست تحت سلطته وأخرى لها توجهات سياسية. وبعضها يتمسك بتوجهاته المتطرفة ويتمتع بتمويل غير واضح.
وبالمثل، فإن مسألة الحفاظ على قوات سوريا الديمقراطية تصطدم بالعداء التركي لها. وهنا تبرز معضلة شكل النظام ومسألة ما إذا كان سيعترف بالحكم الذاتي الكردي، في حين يسيطر الأكراد الآن على نحو ثلث الأراضي السورية حيث توجد احتياطيات النفط السورية.
قد يكون الاتفاق الأساسي والمتين بين الحكومة السورية الجديدة والعواصم الغربية هو إبعاد إيران وروسيا. ومن المتوقع أن يطرح مصير القاعدتين العسكريتين الروسيتين في سوريا على جدول أعمال المناقشات قريباً.
ولا شك أن كلام الشرع بأن سوريا «لن تكون أفغانستان أخرى» وأن الثورة في سوريا انتهت، يعني أنها لن «تصدر» إلى الخارج، سيريح الغرب والدول العربية على السواء. لكن هناك عدوى غير مقصودة قد تسببها نتائج الثورة السورية وتؤثر على الدول القريبة من سوريا.
ولاحقاً، سيواجه الشرع مسألة العلاقات مع إسرائيل وإمكانية انتقالها من الضمانات الأمنية إلى العلاقات المباشرة، في وقت سارعت حكومة نتنياهو إلى الاستيلاء على الجولان والمناطق المجاورة لها والحصول على أسلحة تدمير الجاذبية الداخلية في سوريا. ولا شك أن خطوة نتنياهو تتجاوز التأكيدات الأمنية المؤقتة، وتشير إلى احتلال دائم، كما وعدتنا إسرائيل دائماً.
لكن جنبلاط، انطلاقاً من خبرته السياسية الغنية والطويلة، يدرك جيداً أن لبنان يتأثر بشدة بكل التطورات على الساحة السورية. فكم بالحري يتعلق الأمر بانقلاب كامل وبداية بناء صورة جديدة على أنقاض البعثيين المختفين؟ بناء. إضافة إلى ذلك، يمثل الانقلاب السوري إحدى قطع الدومينو في المنطقة القائمة على دفن نفوذ إيران الإقليمي وخلق معادلة جديدة لا يزال عنوانها غير واضح.
وفي العراق، الجار الشرقي لسوريا أو ما يسمى بـ«الحديقة الخلفية» لإيران والممر الواسع إلى سوريا ولبنان، بدأ رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني باتخاذ خطوات، ولو بشكل مبدئي، للتكيف مع العاصفة والتنبؤ بها. وعين السوداني شخصا مواليا له تماما رئيسا للمخابرات العامة، بعد عدة سنوات قضاها في هذا المنصب تحت قيادة نائبه. واعتبرت هذه الخطوة بمثابة إشارة لواشنطن بأنها ستتعامل مع الملف الأمني بمفردها، وهو ما من شأنه أن يزيد من غضب طهران التي لم تتعاف بعد من صدمة خسارة سوريا. طهران التي تراهن على اندلاع الصراع بين الجماعات التي سيطرت على السلطة في سوريا لإعادة غزو سوريا وإعادة بناء خطوط اتصال سرية إلى الحدود اللبنانية، طلبت من مسؤولي الفصائل العسكرية العراقية الموالية لها اتخاذ الاحتياطات الأمنية منع قتلهم كما حدث في لبنان. وهذا ما يفسر غيابها الكامل عن الظهور الإعلامي. والهدف هو حل الفصائل المسلحة خارج مؤسسات الدولة، وهو ما يرفضه السوداني، على الأقل حتى الآن.
لكن إيران، المرنة في تعاملها مع دمشق والحذرة في العراق، تنوي رفع الحد الأقصى في اليمن لأنها تعتقد أنها أكثر تحصينا وحماية من العراق.
لكن الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه إيران يضعها في موقف خطير. على سبيل المثال، هناك أزمة طاقة جديدة في إيران أدت إلى انقطاعات متتالية للتيار الكهربائي أثرت سلباً على أجزاء كبيرة من قطاعي الصناعة والتصنيع، ويخشى أن يؤدي ذلك إلى احتجاجات في الشوارع.
وستبدأ المفاوضات أيضاً قريباً جداً بشأن الملف النووي الإيراني. ليست هناك حاجة للتذكير بأن دونالد ترامب، الذي سيتولى منصبه قريبا، أعلن صراحة أنه سيتبع في البداية سياسة الضغط الأقصى على إيران، أي فرض عقوبات أكثر إيلاما وضررا.
لكن الجديد هو ما تسرب من العاصمة الأميركية: فريق ترامب يناقش إمكانية شن هجمات على المنشآت النووية الإيرانية من أجل منع طهران من حيازة الأسلحة النووية. ويمكن تفسير كلمات ترامب لمجلة تايم في هذا السياق. وقال إنه لا يستبعد احتمال نشوب حرب مع إيران، “أي شيء يمكن أن يحدث، إنه وضع غير مستقر للغاية”. وذلك لأن ترامب يدرك أن إيران “الجرحى” والمحاصرة هو اتجاه مجنون يمكن أن تتخذه.
وبحسب هذه الصورة، يقوم بعض الأشخاص بفتح حساباتهم في لبنان. جنبلاط، خلال زيارته المثيرة إلى دمشق لتسوية أوضاعه وأوضاع عائلته الدرزية، يريد من نبيه بري، الذي يمسك بزمام القرار الشيعي، أن يخوض الانتخابات الرئاسية قبل العشرين من الشهر المقبل، وسمير جعجع سيترشح للانتخابات الرئاسية. بل انتظروا حتى ذلك الحين بعد وصول ترامب إلى السلطة، بحسب ما خلص إليه عدد من سفراء الدول الخمس بعد زيارتهم له.
وفي الأيام الأخيرة، أرسل بري لجعجع اسم أكثر من مرشح للرئاسة، وكان رد جعجع الفوري هو “هذا غير ممكن على الإطلاق”، وربط رده السلبي القوي برفضه إرسال أي قائمة أسماء لبري. ويرى أحد سفراء الخماسي أن بري يريد استغلال كل الوقت المتاح للوصول إلى حافة الهاوية، وأن موقفه الفعلي والأخير لن يصل إلا في الرابع أو الخامس من الشهر المقبل. لكن هذه مناورة محفوفة بالمخاطر. وذلك لأن هناك انطباعاً عاماً في الأوساط الدبلوماسية بأن جعجع بارد تجاه اللقاء المقرر في التاسع من كانون الثاني (يناير). فهو يريد تأجيل الملف إلى ما بعد تولي ترامب السلطة وشن المزيد من الهجمات على طهران، ما سيمهد طريقه إلى بعبدا، على عكس الفريق الشيعي الذي لا يريد عبور عقبة 20 كانون الثاني/يناير.
وكلما مر الزمن ترسخت معادلة الحكم الجديدة في سوريا، وتضاعفت نتيجة ذلك جرعة انتعاش الوضع السني في لبنان. وبينما يضغط ترامب قبضته على إيران، سيزداد النفوذ السعودي، الأمر الذي سيضر بدوره بلبنان.
هذه هي الحسابات التي تعصف بلبنان ويجب أن يحسم المسار الرئاسي مع بداية العام الجديد، وهو ما ربما دفع جنبلاط إلى اتخاذ قراره مسبقاً، معترفاً بأن هامش الوقت ضيق، ما يعني أن المناورة صعبة أو حتى صعبة تجعل من الصعب. خطير.