عندما اندلعت حرب تموز عام 2006، كان قد مر عام على خروج لبنان من الوصاية المباشرة لدمشق. والواقع أن الإدارة الأميركية بقيادة جورج بوش هي التي طردت القوات السورية من لبنان في ربيع عام 2005، في إطار مقاربة استراتيجية لخلط الأوراق في الشرق الأوسط بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 في العراق وكانت الحرب والإطاحة بصدام حسين عام 2003 هي الخطوات الأولى في تنفيذها.
لقد سعى الأميركيون إلى تحقيق ثلاثة أهداف مترابطة مع القرار 1701:
1- بإبعاد مقاتلي حزب الله شمال الليطاني، يوفر القرار الحماية لحدود إسرائيل الشمالية.
2- بالتذكير بالقرارين 1559 و1680، يضمن القرار 1701 أيضاً انسحاب لبنان من محور دمشق-طهران وإنهاء نفوذه على الأرض وعلى الحكومة ومؤسساتها.
3- يتيح الانسحاب من المحور الإيراني السوري للحكومة في بيروت انتهاج سياسة الاعتدال والانفتاح تجاه الغرب ويمهد الطريق أمام لبنان للتفاوض على تسويات أكبر في الشرق الأوسط في المستقبل.
ولم يكن من الممكن أن تتحقق هذه الرؤية أثناء فترتي ولاية بوش في البيت الأبيض. عندما وصل باراك أوباما إلى السلطة، تبنى اتجاهاً رجعياً في الشرق الأوسط. تفاوض مع إيران على نفوذها وبرنامجها النووي، وعقد معها اتفاقاً «فضفاضاً» وقرر الانسحاب من الشرق الأوسط ومحيطه. خلال هذه الفترة على وجه الخصوص، نما نفوذ حزب الله وتوسع بشكل كبير داخل سوريا، حيث تمكن من تثبيت نظام الأسد ضد معارضيه.
عندما وصل إلى البيت الأبيض عام 2017، بدا دونالد ترامب حريصًا على إعادة مسار بوش في مشاريع الاستيطان والتطبيع العربية مع إسرائيل والمواجهة مع إيران. لكن خسارته لولايته الثانية ووصول جو بايدن أوقف كل شيء. يصادف اليوم مرور أربع سنوات بدأ فيها ترامب الاستثمار مبكراً لتعويض ما فاته، من الملف الفلسطيني إلى حزب الله في لبنان وإسقاط نظام الأسد في سوريا إلى العراق وإيران نفسها، كما كان متوقعاً.
وهذا يعني أن الإدارة الأميركية الجديدة لديها الوقت الكافي للعودة إلى الخيارات المجمدة في لبنان منذ عقدين من الزمن، والتي بدأت بجلاء قوات الأسد. وهناك خارطة طريق جاهزة لتحقيق هذه الخيارات، وهي منصوص عليها في القرار 1701 من كافة جوانبه، خاصة أنه يغطيه كل القوى الدولية، بما فيها روسيا والصين.
وللتذكير، استمر الأميركيون في منع إسرائيل من خرق القرار 1701 طوال 17 عاماً. صحيح أن سلاح الجو الإسرائيلي لم يوقف دورياته الاستطلاعية في الأجواء اللبنانية، لكنه لم ينفذ أي هجوم على الأراضي اللبنانية خلال هذه الفترة، وواصل استهداف مواقع «حزب الله» وإمداداته من طهران داخل الأراضي السورية.
وبطبيعة الحال، سعت إسرائيل دائماً إلى السماح لها بتنفيذ القرار 1701 بطريقتها الخاصة ومن دون قيود، لكن الضغوط الدولية حالت دون ذلك. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2023، كانت الذريعة على طبق من فضة عندما أشعل حزب الله شرارة «حرب الدعم» دعماً لحماس، ورغم الجهود الأميركية الحثيثة في هذا الاتجاه، رفض إطفائها قبل إنهاء الحرب على غزة. وانتهت الحرب كما جاءت.
إن ما يجري على الأرض اليوم، وبعيداً عن القراءات الحرفية لاتفاقية الهدنة وتفسيرات نصها الأساسي وملحقها الإسرائيلي الأميركي، يمكن القول إن القرارات الدولية الثلاثة 1701 و1559 و1680 يجري تنفيذها الآن. بشكل تلقائي وحاسم، بإرادة أميركية وغربية، ولكن على الأقل بآليات إسرائيلية. وتواصل إسرائيل هجماتها وعملياتها الجوية في مختلف أنحاء لبنان، حيث تواصل احتلالها لعدد من المواقع في جنوب الليطاني وتمنع السكان من العودة إلى قراهم. وهذا يحدث دون رادع، لكنه يحظى بموافقة أميركية صريحة أو ضمنية. إن آلية عمل لجنة الإشراف تمنح إسرائيل حرية تنفيذ القرارات الدولية الثلاثة بعنوان “الحق في الدفاع عن النفس” بنفسها. ورغم أن هذا «الحق» مكفول أيضاً للجانب اللبناني في النص، إلا أنه في الواقع لا معنى له، لأن إسرائيل هي القوية والضعيفة التي تطالب بوقف إطلاق النار بأي ثمن. إن التغيرات في سوريا جعلت من المرجح أن يكون اختلال توازن القوى دائما ونهائيا.
لذلك فإن الخيار الأكثر أمانا للبنان اليوم هو الانضواء الكامل تحت راية الشرعية الدولية وكل قراراتها، حتى لو اضطره ذلك إلى اللجوء واقعيا إلى واشنطن. وبعبارة أكثر وضوحا، فإن جعل لبنان قاعدة للنفوذ السياسي الأمريكي في الشرق الأوسط يضمن عدم وقوعه تحت الهيمنة الإسرائيلية. صحيح أن واشنطن نفسها تعطي الأولوية لمصالح إسرائيل في الشرق الأوسط وتبذل قصارى جهدها لتهدئة إسرائيل من خلال تطبيع العلاقات العربية معها، لكن واشنطن لا تريد أن يشاركها أحد نفوذها الإقليمي. انطلاقاً من هذا الواقع، يمكن للبنان أن يدرس الخيار الذي يوفر له أكبر قدر من الاستقرار على الحدود الزلزالية.