والأكثر إثارة للريبة هو أنه عندما يحذر أفيخاي أدرعي سكان القرى الجنوبية بضرورة الإخلاء استعدادا للقصف، فإنه لا يدعوهم للانتقال إلى شمال الليطاني فحسب، كما افترض البعض، بل تمتد حتى الدعوات لإجلائهم ما وراء الأولى، أي خارج المحافظة الجنوبية بأكملها. وهذا يثير علامات استفهام كثيرة: ما الذي يخطط الإسرائيليون لتنفيذه في لبنان على المدى القصير والطويل؟
قبل أن تستولي حكومات اليمين واليمين المتطرف على السلطة في إسرائيل، واندلاع الحروب في غزة والضفة الغربية ولبنان، اعتقد كثيرون أن الحديث عن خطط التوسع الإسرائيلية كان “لغة قديمة” من الحرب الباردة وما ارتبط بها من ثورات عربية. – الصراع الإسرائيلي . بدا الحديث عن أطماع إسرائيل في أرض لبنان وكأنه هاجس لدى بعض الأشخاص الذين يعانون من عقدة الخوف، أو مثل بقايا الكوابيس في أذهان «أصحاب نظرية المؤامرة» كما يحلو للبعض تسميتهم. وحتى الباحثون الجادون الذين طالما قدموا الأدلة على أن إسرائيل تخطط بالفعل للتوسع شمالاً وشرقاً وجنوباً، لم يعودوا يتحدثون عن هذه الخطة لأنه غالباً ما يقال لهم: “أنتم واهمون وتعتمدون على تصريحات عفا عليها الزمن”.
لكن وسط هذا الإنكار الجديد لنظرية المؤامرة من قبل اللبنانيين والعرب، تمكن الإسرائيليون بالفعل من «توسيع الخريطة» باعتراف أميركي قبل بضع سنوات. وفي عهد دونالد ترامب السابق، تم نقل السفارة الأمريكية إلى القدس اعترافا بكون القدس عاصمة إسرائيل وضم الجولان. بالإضافة إلى ذلك، أعلنت إسرائيل صراحة قبل يومين عن نيتها ضم نحو 60% من الضفة الغربية (المنطقة ج) إلى إسرائيل فور وصول ترامب إلى السلطة.
ومن المؤكد أن ضم قطاع غزة تقرر أيضاً تدريجياً بعد تدميره وطرده والسيطرة العسكرية عليه. ويقال إن بعض النازحين يتم إرسالهم إلى العراق لتخفيف الضغط الديموغرافي المتوقع على مصر بسبب الطرد الجماعي من قطاع غزة. وفي نهاية المطاف، ستضاف غزة إلى الخريطة الإسرائيلية وستظهر هناك مستوطنات مكتظة بالسكان، بدءاً بالمنطقة الشمالية.
أما في لبنان، فالحديث جدي الآن عن توسع إسرائيل الجغرافي والديمغرافي على حسابها. هناك شكوك قوية في أن المناطق المدمرة والمحترقة التي تخلقها إسرائيل في الجنوب والتي تريد أن تسميها “مناطق عازلة” ستبقى إلى الأبد دون شعبها اللبناني وستخضع لسيطرة عسكرية إسرائيلية صارمة ليس لها أفق زمني. وبمرور الوقت، لن يكون من الصعب على إسرائيل إطلاق مشاريع استيطانية هناك. وفي أول فرصة دولية إقليمية متاحة، سيكون من الممكن الإعلان عن ضم هذه المناطق اللبنانية على خريطة إسرائيل، في صمت تام، تماماً مثل ضم هضبة الجولان.
والحقيقة أن حدود طموحات إسرائيل في الجنوب ليست واضحة تماماً. وقد يفكر الإسرائيليون في توسيع حدود احتلالهم إذا سمحت الظروف بذلك. وبينما يصر البعض على أن الإسرائيليين يريدون فقط أن يضمن لبنان أمنهم على الحدود الشمالية وأنهم لا يطمعون في أرضه، يعتقد آخرون أن الأيديولوجية اليمينية الموجودة في السلطة حالياً في إسرائيل، والمبنية على خلفيات توراتية، ستستفيد من الوضع التاريخي. فرصة لتوسيع خريطة إسرائيل شمالاً باتجاه لبنان، في إطار محاولتها أيضاً تغيير هذه الخريطة ديمغرافياً عبر تهجير قسم كبير من السكان العرب، تطبيقاً لمبدأ يهودية الدولة.
وللتأكيد على ذلك، أطلق الإسرائيليون، منذ اللحظة الأولى لانتخاب ترامب قبل أيام، حملة مستهدفة لتذكيره بـ«الوعد» الذي قطعه ذات يوم بتوسيع خريطة إسرائيل «لأنها ضيقة شعبها». مخاوف البعض من وصول إسرائيل إلى مياه الليطاني التي طالما حلمت بها لم تعد خيالية. علماً أن هناك من يتساءل ما الذي يمنع التوسع إلى نهر الأولي في مراحل لاحقة عندما تسمح الظروف وموازين القوى بذلك. فهل دعوة أدرعي لسكان الجنوب لتجاوز هذا النهر تدخل في هذا السياق الخبيث؟
في ضوء هذه الحقائق والأسئلة، هناك خطر الاستهانة بمستقبل الجنوب. الدولة اللبنانية غير قادرة على اتخاذ خطوات جدية لإنهاء الحرب وحماية الأراضي المحروقة والمحتلة وإنقاذ الناس الذين يقتلون ويهجرون. أما القرار فهو في أيدي الإيرانيين والإسرائيليين بالكامل. وبينما يتصدى أعضاء حزب الله بقوة للقوات الإسرائيلية التي تحاول التقدم إلى قراهم، فإن القرارات المهمة والمؤثرة التي تقود الحزب، مثل إطلاق الصواريخ والطائرات بدون طيار على إسرائيل، تتخذها إيران وحدها وتستند إلى حسابات الربح والخسارة بينه وبينها. إسرائيل والولايات المتحدة ولا حسابات أخرى.
وإذا استمر فشل اللبنانيين، مسؤولين وأطرافاً، في السيطرة على الحرب، فإن الفرصة سانحة لإسرائيل للانخراط في مناورات الابتزاز والبيع والشراء مع الجميع في الشرق الأوسط حول العالم لضمان مستقبلها الآمن وسلامتها. للتوسع جغرافياً وديموغرافياً، على حساب لبنان الدولة والدولة، وكذلك على حساب سوريا والأردن ومصر وكل الجهات الأخرى التي أرادت التواصل مع إسرائيل. فهل ما زال هناك مجال لتفادي هذا التهديد الوجودي للبنان، أم أن الخطوة فاتت وكتب ما كتب؟